ولندع
الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا
إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر ..
فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق .
ومع دنو خطواتنا
من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت
في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف
على هذه النافذة في ذبول وإطراق ، وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها
الشحوب والضنى ، مسندة رأسها إلى قبضة كفها ،
تتأمل بعين كبار
الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة
والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء
والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ، وتتبين فيه
نموذجا عن حالة قلبها المقفر ،
الذي طالما ظل
مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت
كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها ، وتبددت الأحلام الجميلة ، وأيقظها
الزمان على غصة البؤس والحرمان .
الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا
إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر ..
فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق .
ومع دنو خطواتنا
من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت
في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف
على هذه النافذة في ذبول وإطراق ، وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها
الشحوب والضنى ، مسندة رأسها إلى قبضة كفها ،
تتأمل بعين كبار
الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة
والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء
والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ، وتتبين فيه
نموذجا عن حالة قلبها المقفر ،
الذي طالما ظل
مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت
كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها ، وتبددت الأحلام الجميلة ، وأيقظها
الزمان على غصة البؤس والحرمان .
ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة
الأطراف تفنن الأمير في تشكيلها وإبداعها . جمع فيها كل أشجار الفاكهة
وغيرها . ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها
الطبيعة فوق أي رابية من الروابي ، أو على أي شاطئ من الشطآن .
تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع .
لاحت لها تلك الحديقة خالية .. هادئة ، لا يجوس خلالها أي إنسان ، ولا يرى
من بين أغصانها أي مستأنس أو مستمع ، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود ،
وطيورا يسمع صوتها من بين أوراق الأغصان .
فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها - بأن تنتهز فرصة
وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها ، فتخرج من محبسها في هذا القصر
لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة
والانتعاش .
واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها ، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل وإعياء شديدين ،
وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق ، وشدت خصرها من فوقه بمنطقة
سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة ، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة
سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من
الفضة ، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ
وقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل .
ودخلت الحديقة ، وراحت تمشي بين جنباتها ، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة :
’’ أيتها الأطيار السعيدة : كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين ، أسود
الحظ ، منكوب الطالع ، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد !
أفليس منكم من يدري في أي روض استوطن ، وعلى أي غصن أقام عشّه ؟... وهل
فيكم من يحدثني عنه ، أهو حي لا يزال يخفق بجناحيه ، ويغرد فوق أغصانه أم
نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه ..؟؟‘‘
ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال . فارتمت عندها ، واستندت إلى
جذعها ، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل . ثم
ثبتت عيناها على وردة صفراء ، وقد تميزت ، عن سائر ما حولها من الورود
بصفرتها الفاقعة ، فأثار ذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها ...
وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها ، قد اصطبغت بتلك الصفرة مما قاسته في
هذا الروض من الوحدة والوحشة ، ليس من يرحمها ، ولا من يرق لها ، فراحت
تخاطبها في رقة وحنان :
’’ أيتها الوردة الصفراء ، إن اصفرارك هذا والله قد أحزنني .حدثيني ، أهو
لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من
البائسات ؟ أم هي البلابل . قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء ، فبقيت
وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين ؟
آآآه ... إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة .! إن لي أختا من أمثال تلك
الورود المزدهرة الحمراء ، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا
أيضا به ، ولكنه أبى ، وأبعدني عنه ، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان .‘‘
وكأنما شائت الأقدار رحمة لهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي
انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل
هذا الهدوء . .. فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ
حين على فراش المرض ، رغبة ملحة في الحركة .. في السير .. السير إلى أيّ
جهة ...!
فأخذ يتقلب ممو فترة في فراشه ، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في
نفسه . ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من
الفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه .
ثم نهض فارتدى عبائته الرقيقة ، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها ..
وأخذ يمشي ..
أخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه ، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه ،
ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية .
فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير
وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة . ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي
المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها ، ويتمم سيره إليها ،
دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون ، وفي أي مكان تقع .
وبعد قليل كان ممو يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين ، ينظر
من وراء سورها إلى جوها الرائع ، ويتأمل هدوئها الكامل ، وخلو جنباتها عما
سوى الطيور . ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى
أن يستريح قليلا في فيئ شجرة من أشجارها .
فمضى متجا نحو بابها المؤدي إلى الداخل ، وقد كاد يسقط من الإعياء .
ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق
الشجرة - شبح ممو على البعد ، قادما من بين الأغصان ..! وكانت المفاجأة
شديدة على نفسها ...
وكانت الفرحة أكبر من قلبها .. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال
من خيالات أوهامها ، أم معجزة حققها الله لها ، حتى غرب عنها الإحساس وطمت
عليها الدهشة ، ووقعت مغمى عليها ببين تلك الحشائش والأشجار .
أما ممو فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله .
وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل
بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع . فراح يتأمل فينة وهو يقول :
-’’ فيم كل هذا الهلع أيها الطائر الصغير ؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من
ورودك جمالا ، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب
وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت .
أيها الطائر ، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في
جميعها إلا وردة واحدة ، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في
أي روضة من الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران ، أو في أي سفح من سفوح
هذه الجبال ،
فليس التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد .
ولكن قي لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد
الدنيا بمثلها ! ثم حرمه الدهر من قربها ، وأبعده حتى عن روضها ، وتركه
وحيدا في قفص الوحشة والأحزان ؟ ‘‘.
وهكذا ظلت أفكار ممو وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث
مع كل ما يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان ، إلى أن وجد نفسه
فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش ، ولم يكد ينتبه إليها ، ويمعن
النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره ،
وألقته في يم من الغشية والنسيان ، وهوى صريعا على مقربة من جثة زين .
وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى ممو الذي أبصرته يمشي في
الحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها . فعادت إليها الدهشة والذهول . وأخذت
تحدق النظر في كل ما حولها ..
في جدول الماء الذي ينساب أمامها ، في الورود التي إلى جانبها ، في ممو
وهيأته ، كأنما تتسائل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة
..؟
ثم استعادت كامل رشدها .. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن
تسعدها في هذا اليوم .. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها
الملقى إلى جانبها ،
فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين ، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى
عنهما حينا من الدهر . ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق ، ومدت ركبتها من تحته
، وأسندته إليها ، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من
غمرته . وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه .
فتح عينيه .. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين ... ورأى أجمل وجه في الدنيا
يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو .
ورفع رأسه .. وأخذ يجيل النظر فيها .. وفي نفسه .. وفي سائر ما حوله .. دون
أن يدور لسان أحدهما بكلمة . هذا أسكتته الدهشة .. وتلك عقد لسانها الحياء
.. ثم أمعن ممو في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا :
’’ ماذا ..؟ ألست أنت زين ..؟ ألست أنت قلبي .. قلبي الذي فقدته من بين
جنبي ؟ ولكن .. أتراني في منام رائع .. أم نحن في الحياة الأخرى ..؟ في
جنان الخلد !! ‘‘
فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها ، كيما يؤوب إليه رشده :
’’ بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي . ونحن هنا في الحديقة ، حديقة قصرنا ألست تذكر .‘‘
وأخذ انتباه ممو يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب ، وآمن
بالحقيقة .. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق
لحظة منها ، وعاد ينظر إلى زين من جديد .
وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة
مستسلمة كأنما تقول :’’ إن هاتين العينين من أجلك ...‘‘ وفي ثغرها الرقراق
البديع ، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف ، وفي
شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها .
وسكت ... ثم قال لها في نشوة حالمة : ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين
‘‘ .. فأجابته : ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا ممو . فها أنت ترى كيف
فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك
منذ أول ما التقينا ...‘‘
فدنا منها قائلا :
’’ لا يا زين . إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل . وها أنا ذا ألمح
بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن . عيناك ... إن فيهما أسمى مما
يقال عنه الفتنة والسحر . فيهما معنى رائع ، احتارت في معرفته روحي ،
فكيف يستطيع التعبير عنه لساني ..؟ ثغرك ... إن خمره اليوم لتبدو أشد
إسكارا ، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا . أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك
فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر ، ولست أجده في استرخائه
ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة ، إذ تسترخي على العينين الفاتنيتين
...‘‘
وقطع حديثة فجأة .. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه ، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه :
’’ ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا ،
ما لي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان ، أتطاول بهذا الكلام
إلى البدر الذي لست أهلا للصعود إليه ؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها
،
أما هذا الروض فإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به ..‘‘
ثم قطعت غصة البكاء حديثه ، وراح يجهش في بكاء حار أليم ! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف ممو تبلله بدموعها قائلة :
’’ أقسم يا ممو بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي
أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به ، وبالخلوات التي لم يكن يترائى لي فيها سوى
رسمك ،
أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر ، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت ،
وسأكون وقفا من أجلك ، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا ، وإما في الحياة
الآخرة ...‘‘
ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان . فقاما ،
واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها . وهناك جلسا يتواسيان
..
ويشرحان الهموم والأحزان .. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله .. وراح بهما
ذلك الحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها .
انتهت الشمس إلى
مغيبها ، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم ، ودبت
الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا
يزالان في مجلسهما ذاك ،
منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء .
وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ما
صادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك ... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت
الأصواتوالضجة في كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما
يطوف حولهما .
وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله ،
وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين
وشقيقاه وبكر إلى القاعة ..
القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان فيغبش ظلامهما حديث الحب في ذهول
عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح ..
وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة ...!
هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله .. وأسقط في أيديهما ...
وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما
دخل الأمير الفاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من
أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام ...! فصرخ الأمير فيه قائلا :
’’ من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان ...؟‘‘
فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه :
’’ أنا ممو يا مولاي الأمير ... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى
هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني فيالفراش ، مما منعني عناللحوق بركب مولاي إلى
الصيد .
غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي
قليلا .. ووجدتني أمام هذه الحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق ..‘‘
فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه :
’’ حسنا . وكيف حالك اليوم ...؟ وهلا أسرجت لنفسك ...؟؟ ‘‘
فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من
مكاني لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري ..‘‘
وأسرج المكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ،
ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ،
إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه ،
وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى نعرفة السر الحقيقي لجلوس ممو هنا ... في
هذا الوقت ... بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما
راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن مد يده في
هدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها ..
فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة
قريبة .. ما من ريب فيأنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على
أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي
وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة .
ولاحت لذهنه الفكرة ... فكرو واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة
بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف
باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره ..!
ودخل الدار لاهثا ، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة :
’’ ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟! ‘‘
فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل :
’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر ..! ‘‘
ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا :
’’ إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققة توشك أن
تقع بهما . ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي
هي عليهما ..‘‘
ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول :
’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار ...‘‘
وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده
تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ، وأخذت
النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه
.. والوفاء له ..!
وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل
النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول
يسرعون إلى النجدة والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعة
تماما .. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا :
’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين ..
فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن
وتعودي إلى القصر ...‘‘
أيها الساقي حسبي
... حسبي فإن العقل لا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب ، وأخشى أن
يداهمني سلطان الأجل كما داهم الأمير ممو ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل
تاج الدين ينجيني وينقذني ..
أيها الساقي ، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة .. فأبعدها عن شفتي
.. أبعدها ، فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب .. أبعدها ويحك قبل أن
يطرحني وهج الشمس أمام رقراقه الكاذب ، ويتلفني هناك الظمأ والضنى ...
ولكن .. ولكن حدثني ، أليس بين زجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى ..؟
تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس ، وتسكرني بروعة الجمال الخالد ..
وتنشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقها الخداع .
آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا ..
ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه ،
لكي أعلو بها فوق هام هذه المادة ، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها ، والوفاء الذي أدين به .
ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني ، وبريق السرير الذي أمتد عليه ، إذا
كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدها بنور ذلك
القصر والزينة والسرير ؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي ،
إذا كان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه ؟.
هذه المادة الفانية ، ما أثمنها في القلب ، وأبعثها للنشوة في النفس ، عندما تكون فداء للمعاني القدسية الخالدة .
وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركز البقاء والخلود ...
الإثنين فبراير 27, 2012 4:33 pm من طرف prnsjo
» من أجمل ما قرآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآت
الإثنين فبراير 27, 2012 4:30 pm من طرف prnsjo
» كم منا يريد ان يرى المصطفى فى منامه
الجمعة فبراير 24, 2012 5:11 pm من طرف prnsjo
» كيف نعشق الصلاة
الجمعة فبراير 24, 2012 5:06 pm من طرف prnsjo
» نكت 2012
الجمعة فبراير 17, 2012 1:59 am من طرف Biso_basim
» نكت جامده جدا
الجمعة فبراير 17, 2012 1:52 am من طرف Biso_basim
» اجمل و اجمد و اروش نكت
الجمعة فبراير 17, 2012 1:42 am من طرف Biso_basim
» نكت بخلاء
الجمعة فبراير 17, 2012 1:40 am من طرف Biso_basim