ليس
أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه
ببشارة الوصل والرضى ، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه
بذلك من مرارة اليأس وآلامه .
إن فيها لحنا
تعجز عن أداء مثله الأوتار ، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور ،
وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر .!
أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه
ببشارة الوصل والرضى ، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه
بذلك من مرارة اليأس وآلامه .
إن فيها لحنا
تعجز عن أداء مثله الأوتار ، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور ،
وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر .!
إنها تلك الساعة التي طنت دقاتها في مسمع ممو وتاج الدين حينما عادت العجوز
إليهما بمظهرها الأول حيث أهدتهما البشارة على أحسن وجه ،
وبلغتهما رسالة الأميريتن بالنص . ولم تكن رسالة وبشرى فقط بل كانت بلسما لدائيهما ، وروحا جديدا سرت في جسميهما .
وغمرت العاشقين لحظات من النشوة والفرح ، وطاف بهما من حديث العجوز أريج
عطري بديع ، وتموجت في سمائهما من صداه أنغام سحرية سرت في مشاعرهما ،
وأسكرت لبهما . ثم قام فنفح كل منهما طبيبته المبشرة ما استطاع من الهدايا والمال لقاء تلك البشرى التي زفتها إليهما .
وهب الصديقان يسرعان إلى الأقارب
والأصحاب يقصان عليهم لأول مرة قصة حبهما ، ويبلغانهم البشرى التي وصلتهما .
فعمهم الابتهاج والفرح ، لا سيما عارف وجكو اللذين كانا في حيرة بالغة من
أمر أخيهما تاج الدين وصديقه .
وفي صباح اليوم التالي تألف منهم جمع من وجوه الجزيرة وأعيانها وعلى رأسهم
شقيقا تاج الدين ، وانطلقوا متوجهين إلى قصر الامير زين الدين ليكلموه في
الشأن ويلتمسوا منه قبول هذين الصديقين صهرين له .
ولكنهم رأوا فيما بينهم أنه لا بد لكي يضمنوا إجابة الأمير لخطبة ممو أيضا
أن يلتمسوا أولا يد الأميرة ستي لتاج الدين دون أن يذكروا شيئا عن صاحبه ،
فإذا ما أجاب اتخذوا من ذلك فيما بعد وسيلة لالتماس يد الأميرة زين لممو ،
وسيمهد ويهيئ لذلك ما سيحدث من احتكاك ممو بالقصر وتقربه إلى الأمير بسبب ما بينه وبين تاج الدين من المودة والعلاقة الشديدة.
ودخل الوفد ديوان الأمير .. وأدوا أمامه مراسم التحية والإجلال ..
وبعد أن استقر بهم المكان نهض عارف مستأذنا الأمير في الكلام ثم قال :
- ’’ مولاي صاحب السلطان : إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم هذا الرجاء :
لا ريب يا مولاي أن العزيز منا من شرفته بعنايتك ، ولا يفيده بعد ذلك أن
تحاول الدنيا إذلاله ، والمهين من حرم من عطفك ، ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة
يركن إليها أو سلطان يعتز به .
وإن تاج الدين يا مولاي وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن
شيئا من لك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك .. وهو اليوم يأمل من
مولاه أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب .. ملتمسا منه يد الأميرة ’’ ستي ‘‘
ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا
الرجاء . فهو يا مولاي أخلص خادم يستأهل عطفكم ، ولعله أليق شاب بالتشرف
بمصاهرتكم . ‘‘.
ثم عاد عارف فجلس في مكانه . وتعلقت أنظار الجميع بشفتي الأمير ينتظرون
جوابه . ولكن الأمير لم يطل تفكيره ، بل سرعان ما نظر إليهم قائلا :
’’ الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة إلى ما تطلبون ، بل أنا سعيد بموافقتكم فيما أجمعتم على رؤيته لائقا وموافقا .
فليتقدم إلينا من كان وكيلا عن تاج الدين في هذا . واطلبوا لنا القاضي الذي
إليه إبرام العقود ، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن . ‘‘.
فهب جكو من مكانه منكبا على يد الأمير يقبلها ويشكره بحرارة ولهفة وتابعه
الجميع يشكرونه على تفضله وعطفه . بينما تابع الأمير حديثه قائلا :
’’ لا ريب أن هذا الشاب قد أمضى أياما طويلة في خدمتنا ووقف حياته بإخلاص
لنا . وإن من شروط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه ، ونؤديه حق خدمته ،
وأن نقوم بواجب هذا الوفاء له اليوم .
ولا بورك لي في الإمارة والسلطان إن لم أعطه حقه كاملا غير منقوص ، وإن لم
أجعل له في رحاب قصري هذا محفلا تزدان فيه الولائم والأفراح ليالي وأياما
‘‘ .
ثم التفت فاستدعى رجال القصر قائلا :
’’ عليكم أن تبادروا من الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب
لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح . هيئوا لها كل ما طاب من أنواع الشراب
، وادعوا إليها كل أصحاب الطرب والغناء ، فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه
السويعات التي حولنا .لسنا ندري وليس أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين
من الغد نملك حياتنا ،
أم سيتخفطها منا القدرالمحتوم .
هذه الحياة وبهجتها ، وهذا السلطان وأبهته ، وهذا الفلك الدائر من حولنا ، كل ذلك مظاهر لااطمئنان إليها ولا أمان لها ،
هذه الأشكال التي يتضرب فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور
التي تمتزج فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج
فيها مباهج الأفراح والأعراس بمآسي المآتم والأحزان ، كل ذلك يحذرنا من
تفويت الفرص بعد حلولها وينبهنا إلى تدارك ساعات اللذه قبل غروبها .
فالدهر لم يكن يوما ما يفرق في خداعه بين شيخ وأمير ، وسلطان وفقير ‘‘.
ثم التفت إلى شقيقي تاج الدين ومن معهما ، وابتسم قائلا :
’’ فلأكن واحدا منكم من أجل تاج الدين اليوم . ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب ، والقيام في سبيل إرضائه ..‘‘
وفي مساء اليوم التالي كان القصر قد أمسى قطعة من الفردوس ، مما كان يتألق
فيه من مظاهر البهجة والزينة وتتراقص في كل أنحائه كل معالم المرح والترف ،
كما غص كل نواحي القصر وأطرافه بمختلف الطبقات والأشكال من الناس .
وأقيم في ردهته المتسعة خوان عظيم امتد به الطول والعرض امتدادا شاسعا ،
وصفت من فوقه عشرات الطباق الفضية التي استدير بعضها على شكل نجوم ، وقوس
بعضها الآخر على شكل أقمار ،
وأقيم فوقها قباب من أغطيه فضية تتألق في هندسة ما تحتها وشكله ،وقد كمن
تحت كل منها خروف مشوي لم تمس هيأته ولم يتغير شكله ، كما حشر بين ذلك مئات
من أطباق الفاكهة والحلوى ومختلف ألوان الطعام و نثرت في سائر الأطراف
كؤوس يترقرق فيها ألوان الشراب .
ولم يكد العشاء يرتفع حتى بدأ الحفل من جديد ، واتخذ الناس أمكنتهم في
الشرفة الواسعة التي تطل على حديقة القصر . وجيء بمختلف ألوان الشراب في
أباريق مفضضة بديعة ، يديرها غلمان قد أفرغوا في أروع قالب من اللطافة
والخفة والجمال .
وأدير أرق أنواع العطور ، فانتشر شذاها في الحاضرين متهاديا مع نسيم الليل
وأضوائه . ومع حفيف ذلك النسيم أخذت أصوات الغناء تنساب إلى الآذان في جو
حالم خلاب بألحان الفرح والبهجة . فرادى حينا ،
وحينا تنساب أصواتهم جميعا في مقامات وألحان سحرية تتردد أصؤها حلوة بديعة
بين حفبف تلك النسمات العطرة التي تداعب القوم في سكون حالم .
وفي تلك الأثناء أخذت أنظار الجميع ترتكز على مقعد في صدر المكان ، حيث كان
يجلس فيه تاج الدين ، وقد بدا في عينيه بريق الأمل السعيد ، وتجلت في
ملامح وجهه فرحة السعادة .
وكان كل من يدقق في نظرته يدرك بسهولة أنه لا يكاد يرفع بصره عن ناحية
بعينها في ذلك المجلس ، فإذا ما تبع بصره إلى تلك الناحية رأى هنالك ’’ ممو
‘‘ وقد جلس جلسة تدل على أنه منطو على نفسه انطواء تاما ،فهو لا يكاد يشعر
بشيء مما حوله .
ونظرة في عينيه الذابلتين ، وفي ملامح وجهه الذي أماله وأسنده على ظهر كفه
في إطراقة طويلة - تدل على أن شيئا من سحر ذلك الجو وجمال تلك الأوتار
والألحان لا يلامس نفسه ، اللهم إلا لمسة عابرة غير مبالية ، كأنما تقول له
: ’’ لا أعرفك ... ولست من أجلك ..‘‘
و بينما الناس في تلك الأثناء إذ سكت كل شيء .. وهب الناس جميعهم قياما ..
فقد دخل الأمير في تلك الساعة . وقبل أن يصل إلى الصدر الذي كان يجلس تاج
الدين في بعض مقاعده نهض هذا من مكانه مسرعا فقبل يده .
فأخذ الأمير بيمينه ومضى به فأجلسه إلى جانبه بعد أن أشار إلى الحشد الكبير بتحية باسمة .
ولم يكن يخفى على الأمير أن بين تاج الدين وممو ودا شديدا ومحبة صادقة ،
فأخذ يجيل النظر في هدوء باحثا عنه إلى أن عثرت عيناه عليه ، ورآه ساهما
مطرقا .
فأدرك أنه ربما أوحشه أن يكون بعيدا عن صديقه في هذا الحفل الذي يقام من أجله ، فاستدعاه إليه ثم قال :
’’ أنت صديق تاج الدين وصاحب وده . وليس ثم أقرب منك إليه وأليق بأن يكون
’’ حفيظه ‘‘* منذ الليلة إلى آخر أيام عرسه . فتعال واجلس إلى جانبه هنا
.‘‘
فانحنى ممو للأمير قائلا :’’ أمر مولاي .‘‘ ثم تراجع وجلس إلى جانب تاج الدين .
وعاد الطرب والغناء ، وعادت الكؤوس تدور . وكانت ليلة رائعة أضفت على كل الحاضرين سعادة وأنسا .
وامتدت تلك الليلة السعادة امتداد الليل ، حيث كانت نهايتها أول أساس في
بناء عرس تاج الدين . وكان ذلك الأساس هو عقد نكاحه على الأميرة ’’ ستي ‘‘ .
ونعود الآن مرة أخرى إلى رحاب قصر الأمير بعد أن مضت مدة على نكاح تاج
الدين ، وانهمك خلالها في إعداد العدة وتهيئة اسباب العرس . وقد غصت ردهة
الطابق العلوي منه بعشرات الوصيفات اللواتي أخذن في تهيئة شتى وسائل الزينة
والتجميل للأميرة العروس وأختها ، وليضفين على فتنتها روح الأناقة ،
ويزدن في سحرها روعة الصنعة .
وأقبلن إلى العروس يسرحن النظر أولا في شعرها ... شعر كستناوي في نعومة
الحرير .. قد تموج من سائر أطرافه في غزارة منسابا إلى ما تحت المنكبين في
بهاء وفتنة ...
وتمايلت من أعلاه خصل ملتوية فوق الجبين في دلال ولطف ، بينما استدار سائره
أمام الصدغين وحول الوجه في تجاعيد رائعة ذات سحر . تصميم إلهي بديع لا
يستطيع أي مخلوق أن يلمس في روعته نقصا ليكمله ، أو خطأ ليعدل فيه .
وانتقلت أبصارهن إلى العينين ... عينين واسعتين تنظران بسهام الفتك ، تحت
حاجبين ينطلق منهما مثل ما ينطلق من كبد القوس وأهداب ناعسة سوداء في سواد
الليل ...
تسترخي على تلك المحاجر استرخاء شاعريا يفعل في الألباب ما تفعله الخمر .
هذه الفتنة من الكحل الإلهي العجيب ، وهذا البريق الساحر المنبعث من هذه
النظرات ، أي إثمد أو صبغ في الدنيا له أن يغير من ذلك ويبدل ؟!
ثم استدارت أنظارهن إلى القوام ..
قوام مياد أفرغ في أروع قالب من التناسق والجمال ، وصمم في أدق تكوين إلهي
معجز . فجاء منسجما من كل أجزائه وأطرافه ، يبعث بعضه الفتنة في بعض . فأي
يد من أيدي التقليد والصنعة تزعم أنها ستزيد فيه روعة وإبداعا ؟
ووقفت الوصيفات من حول ستي في جمود وذهول يمجدن خالق هذا الجمال ، وقد
اعترفت حيرتهن بأن الجمال الذي صورته يد الخالق لا سبيل ليد المخلوق في
تغييره .
ثم رأين أن ليس لهن إلا أن يتوجن ذلك الجمال بإكليل رصع بالدر وأثمن أنواع الماس .
يضعنه فوق جبينها المشرق وبين أمواج ذلك الشعر الحريري الرجراج . أما
قوامها فقد تركن فتنته تشع من خلف ثوب من القطيفة البيضاء ، سرت فيه نقوش
رائعة من خيوط الذهب الخالص ، وقد التف من الاعلى على جسمها التفافا يبعث
السحر .
بينما اتسع من الأدنى اتساعا كبيرا ، وترك له ذيل طويل يتهادى من حولها على
الأرض . أما نحرها وما دون ذلك إلى الصدر فقد ترك إشراقه باديا ليتألق فيه
عقد من الماس تدلت من سائر أطرافه على النحر حبات اللؤلؤ النادر .
وانصرفن بعد ذلك إلى ’’ زين ‘‘ ولكنها كانت أغنى من أختها عن التجميل
المصطنع لقد كانت هي وحدها الآية التي دلت على أن للإبداع الإلهي
أن يسو على فتنة ’’ ستي ‘‘ وجمالها فلم يكن الشأن في تزيينها يحتاج أكثر إلى مما قمن به بالنسبة لأختها ..
ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى انبعث من قصر الأمير موكب يتهادى من وراء صفين من الخيول المزينة ، موكب يزدان بأفخم مظاهرالجمال .
عشرات من الوصيفات والجواري يتمايلن في أبدع أنواع الزينة والحلي ، تتوسطن
غادتين لو أن الشمس الساطعة في السماء انقلبت إلى انثى من بنات حواء لما
استطاعت أن تكون في سحرها وجمالها !
من ورائهن عشرات الغلمان الذين أفرغت عليهم كأس الزينة بأنواعها ، يحملون أطباقا متألقة ملئت بالحلوى والنفائس والتحف .
وبدأ الموكب الرائع يعوم في يمٍّ متلاطم من الخلائق ، الذين تدفقت بهم
الجزيرة من شتى نواحيها ، يتطلعون في ذهول إلى تينك الغادتين اللتين طالما
سمعوا بهما ،
وحرمهم القصر رؤيتهما . ومضى الموكب يمخر العباب ... ويتهادى في وسطه ،
والأعين كلها شاخصة في مشرق تلك الفتنتين إلى أن رسا أمام قصر تاج الدين
... وهو قصر شيده على أبدع ما تخيله من طرز . رفع أعمدته وفرش أرضه وجدرانه
بأفخر أنواع المرمر المتألق ، وجعل أبوابه ونوافذه من الصندل والأبنوس
النادر ،
ثم حلىَّ أطرافه وسقفه بنقوش دقيقة من ماءالذهب الخالص .
وما إن دخلت العروس إلى الردهة الخارجية للقصر حتى رفعت فوق عرش فخم من الأبينوس كان ينتظرها هناك .
وفي مثل طرفة العين اعتلى ذلك العرش فوق عشرات الأيدي والأكتاف .
يتهادى وسط ذلك الخضم من الناس ، وبين صخب ممتزج من الزغاريد وأصوات
الدفوف والمعازف وعبارات الدهشة والإعجاب ، حيث صدِّر أخيرا في بهو الطبقة
العليا من القصر ، بينما كانت الجموع الحاشدة من المدعوين يجلسون في جناح
آخر منه ،
تطوف عليهم كؤوس الشراب ، وقعد إلى جانبه ’’ ممو ‘‘ وقد بدا في مثل أناقته
ومظهره . وراحت جزيرة بوطان كلها تسهر في ثمل ومرح . وتتمايل في أحضان
اللهو والطرب . وتوارت من وجه الدهر كآبته ، وأخذ يطل على الناس بخالص من
مظهر الصفو والسعادة . كؤوس الراح تدور ،
ورنات العيدان وصوت الغناء والدفوف يشق جو السماء ، ومئات الجواري والشباب
يرقصون رقصات جماعية فتانة تتهادى معها القلوب والمشاعر . وظهرت في تلك
الأثناء أطباق فضية فوق أكف رجال من حشم القصر قد فاض كل منها بأكوام من
الذهب والفضة وكرائم التحف ونفائسها ،
حيث أخذوا ينثرون تلك الأكوام من علو فوق تلك الجموع الحتشدة في سائر جهات
القصر و أنحائه ، فتتفرق فيما بينهم في بريق كأنها النجوم تتهاوى عليهم في
غزارة من السماء . وعم كرم الأميرجميع الناس . وأدخل الفرحة والبهجة إلى
جميع القلوب .
فكم من فقير في تلك الليلة استغنى ، وكم من عديم أيسر ، ولك تزل هذه
الأفراح على هذا المونال قائمة لا تهدأ إلى سبع ليال كانت كلها مجمعا للصفو
والمرح ، ومقدمة بين يدي ساعة العمر ... ساعة الوصل بين ستي وتاج الدين .
وفي ساعة السحر من الليلة السابعة ، والأفراح دائرة وقلوب الناس مستطيرة -
كان قد بلغ الشوف بالعروسين أشده ، واستعرت نار الشوق في ضلوعهما ، وامتزج
وهجه بندى ذلك السحر ونسيمه ،
وأخذ كل مظاهر الأنس والبهجة من حولهما يلمس فؤاديهما لمسة كاوية . يلتف
بها النسيم ، ويقام من حولها الخشيم ، لا بد أن تتوهج وتتلف ...
هنالك ... وفي لحظة من تلك للحظات المتموجة في نسمات ذلك السحر - انفتح
بابا تلقاء الأريكة التي كان يجلس عليها تاج الدين ظهرت ورائه مقصورة مزينة
تميس في فتنة حالمة ...
وقد فاح من أركانها أريج العطر ، وأقيم في سائر أطرافها شموع تشع بأضواء
مختلفة الشكل تنتشر في جوها نورا ناعسا ذا جمال وسحر ، كما نظمتفي بعض
جهاتها أطباق صغيرة مذهبة شُكل فيها ألوان الحلوى ووسائل التسلية .
ثم ظهرت في أيدي جمع من ذوي العروسين شمعة باسقة ، في طول القامة . وقد
وشيت أطرافها بأغصان من ماء الذهب ، وتوج أعلاها بإكليل من الزجاج المنقوش
يشع من ورائه لسان من النور المتوهج ..
حيث أقاموها في وسط تلك المقصورة تلقاء نظر تاج الدين ، لتقول له بلسان حالها :
’’ أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره .. يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألم واحتراق ..
إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته إلى حيث تنتظرك عروسك ...
قم فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته - نعيم الوصال ...
قم فإن شمعتك مثلك في الإنتظار .. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك ...
من نار الإصطبار ...
حسبك مثلي ذوبا واحتراقا ... وكفاك مثلي دموعا وتسكابا ...
إن ذلك النور الذي ضاع ورائه قلبك .. هو ذا أمامك اليوم ... فلترتم
فيأذياله ، كما تفعل الفراشة الملتاعة .. إذ تنثر روحها على أذيال اللهب .
أيها الساعي ... طالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصول إلى هذا المطاف ..
أيها السالك .. كم أظمأت كبدك قصدا إلى الطواف ...
لقد قدر الله لك كل ذلك في سهولة ... وحققه من أجلك في يسر ...
ها هي كعبتك .. قد سعت نحوك . وها هو ذا مطافك قد تدانى إليك ...
أيها العاشق السعيد .. قم لتطوف وتلتزم .. وتقبل وتستلم ...
أيها العاشق الظمآن .. قم ، فالكأس مترعة .. وخمرتك في الإنتظار ... ‘‘ .
وأدرك تاج الدين من هذه الإشارة وملابساتها أن قد حانت ساعة الوصل ولاح
فجره .. فنهض من مكانه في سكينة وهدوء ، وسار نحو المقصورة التي فتح بابها
في انتظاره ، وإلى جانبه ممو صديق سروره وأحزانه ، يده في يده وقلبه مع
قلبه ، وقد اشتمل على سيف في جنبه ، وهو شأن ’’ حفيظ ‘‘ العروس في العادة .
وعند الباب وقف ممو منحازا ليودع خليله ويشير إليه بالدخول ،
وكانت لحظات ... توارى من بعدها تاج الدين وراء الباب الذي ما لبث أن أغلق ، بينما ظل صاحبه واقفا في مكانه ذلك كأنه حاجب أمين .
ودخل تاج الدين إلى المقصورة ، ليجد عروسه جالسة من وراء تلك الشمعة التي حدثته بدموعها حديث الحب والوصال ..
حيث تصافحت عيناهما في سكون حالم وتعانق قلباهما في ذهول طويل ، وتبدلت نار
ضلوعهما شهدا وخمرا . وباركت لهما تلك الشموع التي تحترق كؤوسا مترعة من
الرحيق .. وشهدت وحدها أجمل لحظات الدنيا لدى الأحبة ...
وظل العروسان ثلاثة أيام في انشغال عن الدنيا وما فيها ، يرقدان في مهد
الأحلام ، ويستيقظان على الأحلام ، غذاؤهما شهد الوصال ، وشرابهما كوثر
الشفاه
أما ممو فإنه لم يشأ - حتى بعد أن انفض الجمع ، وانصرف الجميع - أن يبارح
مكنه من قصر صديقه ، إذ كان سعيدا بأنيتولاها لصديقه المحبوب ، تقضي - إذا
أريد أن تكون في أسمى درجات الإخلاص -
بأن يظل مكانه كأي حاجب مخلص إلى أن يخرج العروس في اليوم الثاني أو الذي يليه ، ليتلقاه ويكون أول من يهنئه من أصحابه
وهكذا اتخذ ممو مكانه في ناحية من فناء صرح تاج الدين الذي كان عبارة عن
حديقة غناء تحيط به من سائر جهاته وحملته دواعي إخلاصه على أن يلازم المكان
طوال تلك الأيام الثلاثة ، فلم يكن يبارحه إلا بعد منتصف الليل ، أو إلى
شأن ضروري له ،
ثم لا يلبث أن يعود مسرعا إلى مكانه في انتظار خروج صديقه ليهنئه بحبه الذي سعد به .
والحق أن شعور ممو في تلك الفترة لا سيما بقية الليلة الأولى عندما انفضت
حشود الناس ، وطوى بساط ذلك الأنس والصخب ، ولم يبق سواه واقفا عند ذلك
القصر وسط سكون الليل - كان شعورا ثائرا ألهب شوق فؤاده ،
وأحاطه بمعنى الوحشة والغربة ، وأيقظ آلامه التي بين ضلوعه، وأثار حبه
العنيف الذي كان من غير شك أشد من حب تاج الدين . فإذا علمت أيضا بأنه كان
قد لمح مليكة قلبه في تلك الليلة والليالي التي قبلها ولمحته أكثر من مرة ،
ورأتها عيناه وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلي -
أدركت أن شعوره إذ ذاك جديرا بأن يحدث أثرا جبارا في نفسه ، ومن بعيد أن يتحمله مهما آتاه الله وأمده به من جلد وصبر .
غير أن بردا من الآمال المنعشة كانت تسري إذ ذاك في مشاعره ،
فتخفف مقدارا من الآلام والثورة في نفسه وتجعل فكره ينشغل بنشوتها عن الإنتباه إلى تلك اللواعج الشديدة .
فلقد كان لا يفتأ - وهو يجوب كالحارس في أطراف القصر وبين حدائقه - يفكر في
الك الملاطفة التي أبداها الأمير نحوه تلك الليلة والليالي التي قبلها ،
وقد أخذ يتراءى له من ذلك أكثر من دليل على أن آماله قد راحت تزدهر .
إذ هل يمكن أن يعتبر شيء من ذلك التقدير الذي أبداه لما بينه وبين تاج
الدين منعلاقة الود والخلة ، أو اختياره له خاصة أن يكون قرينه وحفيظه إلى
جانبه في عرسه ،
أو تلك الملامح الخاصة المفاجئة التي ظهرت في عنايته وعطفه عندما امره بأن
يقعد إلى جانب تاج الدين ويتتزيى بمثل زيه وحلته ، هل يمكن أن يكون شيء من
ذلك إلا أكبر برهان قاطع على أنه لن يمانع أبدا من أن يسعد هو الآخر ب’’
زين ‘‘ وعلى أن يتزوجه بها ، ويقيم لهما مثل هذا الحفل الرائع عند أول
إشارة أو رجاء ؟!....
بل من يدري ؟ فقد يكون الأمير لاحظ طرفا من هذا الحب المتمرد في فؤاده
وأدركته رقة ورحمة لحرمانه من هذا الحفل البهيج الذي ينفرد فيه صديقه
بالسعادة والهناء ، فأراد أن يشعره بالأمل ، ويدخل إلى قلبه البشرى ، فجعل
من تصرفه هذا ألطف إشارة إلى ذلك .
وأخذت هذه الآمال الجميلة تجعله يشرع في تصوير حياة سعادته وبناء أحلام حبه .
وراح يفكر كيف أنه سيحاول تشييد صرح جميل كصرح صديقه ، وسيجعله يزدان
بأبهى أثاث ويحيطه بفتنة خضراء كهذه الحديقة . بل لقد حدثته نفسه بأنه لا
بد من أن يشرع في التفكير لتدبير كل هذا من الآن فما أضيق الوقت إذا تقدم
إلى الأمير بعد أيام لخطبة حبيبة فؤاده ، وعاجله الأمير في كل شيء كما عاجل
تاج الدين ،
وما أشد على نفسه الصبر بعد ذلك في انتظار تهييء الجهاز وتدبير الأسباب .
والخلاصة أن حلة ممو النفسية في تلك الأيام الثلاثة التي كانت أول عهد
فراقه عن تاج الدين ، والتي قطعها منفردا في فناء قصره ينتظر خروجه ورؤيته -
كانت أشبه ما تكون بقوس قزح من ألوان مختلفة من المشاعر والأحاسيس ،
لا يمكن أن يسمو إلى تصوريها أي بيان . فلقد امتزج الحب القاسي العنيف بأد
لهيب من الشوق وخالطهما الأمل المزدهر في أجمل صوره وأصدق إشراقه ، ثم
انبثت كل ذلك مجتما في سائر مشاعره ، وراح يخلق له من بين ضرام الواجد
أحلاما سعيدة ، ونشوة عطرة ، وابتهاجا بفرحة صديقه ووصوله إلى مبتغاه .
وفي صبيحة اليوم الثالث خرج تاج الدين ... وكان أول ما دعاه إلى الخروج هو
تذكره لممو . فلقد طالت غيبته عنه ، واشتاق إلى أن يراه ويطمأن على حالته
مع قلبه الجريح .
خرج من القصر .. وأخذ يسير في الحديقة متجها نحو باباها الخارجي قاصدا دار ممو دون أن يعلم أنه لا يزال واقفا هناك ،
ولم ينتبه إلى وجوده إلا بعد أن لمحه على البعد وأسرع يجري إليه ..
وهناك امتزج الصديقان في عناق طويل ، ونظر تاج الدين إلى وجه صديقه ، فأدرك
أن هناك آلاما ولواعج في نفسه ، قد حاول طيها وجمعها في زاوية صغيرة من
قلبه لكي يتسع للابتهاج التام بفرحة أخيه ... فتنحى به جانبا من الحديقة
وأخذ بكفه قائلا :
’’ أقسم لك يا صديقي أنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو
ظهر لي أي طريق يمكنني أن أفتدي فيها هنائي وحبي بلحظة واحدة من حبك
وسعادتك لما توانيت عن ذلك . ولكنك تعلم أن هذه هي السبيل الوحيدة لوصول
كلينا إلى آمالنا التي علق القضاء قلبينا بها .
وثق أنني لن أستسيغ طعم سعادتي التي تهنئني بها إلا بعد أن يسعدني التوفيق في إيصالك إلى مناك وآمال حبك .‘‘
وهكذا ظل الصديقان برهة من الوقت يتبادلان التهنئة والمصابرة . هذا يهنئه
من كل قلبه ويشعره بفرحة فؤاده من أجل سعادته ، وذاك يواسيه ويحمله على
الصبر ، ويبشره بقرب وصاله هوأيضا .
الصديق ...؟؟؟؟ ألا ما أثمن الصديق الذي يتسع قلبه المحروم للابتهاج بسعادتك ، ويقيم وراء صدره المكلوم عرسا يوم فرحك .
هذا الصديق الذي منحتك الدنيا مثله فإفده بسائر مظاهرها ومن فيها ، فإنما هو سراج من أجلك في الظلماء ، وهو أمل لقلبك عند اليأس
الإثنين فبراير 27, 2012 4:33 pm من طرف prnsjo
» من أجمل ما قرآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآت
الإثنين فبراير 27, 2012 4:30 pm من طرف prnsjo
» كم منا يريد ان يرى المصطفى فى منامه
الجمعة فبراير 24, 2012 5:11 pm من طرف prnsjo
» كيف نعشق الصلاة
الجمعة فبراير 24, 2012 5:06 pm من طرف prnsjo
» نكت 2012
الجمعة فبراير 17, 2012 1:59 am من طرف Biso_basim
» نكت جامده جدا
الجمعة فبراير 17, 2012 1:52 am من طرف Biso_basim
» اجمل و اجمد و اروش نكت
الجمعة فبراير 17, 2012 1:42 am من طرف Biso_basim
» نكت بخلاء
الجمعة فبراير 17, 2012 1:40 am من طرف Biso_basim