قرأتم فيها سبق.........
انشطر
باب الظلمة لنصفين وتنافر كل منهما عن الآخر ليخرج ذلك الطبيب بوجهه
المتعرق فانتفض دانيال ووقف بسرعة هائلة وهو يقول موجهاً كلامه للطبيب " ما الأخبار دكتور؟؟.. هل نجحت العملية؟؟ "
صمت الطبيب لثوانٍ ثم قال " لقد نجحت العملية بفضل الله "
وضع دانيال كفيه على وجهه واستدار ثم قال بفرح لا يوصف " نعم... حمداً لله "
قاطع الطبيب فرحة دانيال بقوله " هنالك بعض الشروخ في عظامها لكنها لن تضر كثيراً.... لا نعلم حتى الآن أيه أضرار حدثت في عقلها فقد... "
التفت دانيال وقال بريبة " ماذا؟؟ "
فتح الطبيب فمه ليقول " لقد.. " لكن الكلمات أبت الخروج من جديد فأمسك دانيال بياقة الطبيب بخشونة وعصبية وصرخ " ماذا؟؟ "
أمسك الطبيب بكفي دانيال ثم قال بسرعة " اهدأ
سيدي... لقد.... لقد دخلت زوجتك في غيبوبة.... ولا ندري بالتحديد... إن
كانت ستصحو منها اليوم... أو غداً.... أو ربما سنة أو سنتين أو..... ستبقى
فيها للأبد "
ترك دانيال ياقة الطبيب ويداه ترتجفان.... بل جسده
بكامله كان يرتجف.... استدار للجميع وعيناه مفتوحتان على مصراعيهما....
بينما تحملان كل معاني الصدمة... الفزع... الخوف.... عدم التصديق.... سمع
صيحات بكاء صديقاتها فحرك لسانه بصعوبة ليهمس" لا " بعدها سقط على الأرض وقال بنبرة أكثر علواً " لا ".
اقترب السيد إدموند منه فالتفت إليه دانيال وعيناه
تتطلعان لمستقبل أسود معتم بعتمة الليل البارد تغطيه ظلال الحزن ودياجير
المعاناة... بينما تجول فيه وحوش الوحدة الشرسة.... تنهش به... تنشب فيه
أنيابها الحادة.... تقتله... فقال بصوت خافت " لا أبي.... إليزابيث مازالت معي... إليزابيث لم تدخل في غيبوبة.... إليزابيث لم تتخل عني... إليزابيث لم تتركني "
قال توم بنبرة خافتة " دانيال لقد... "
قاطعه دانيال بصراخ " لا.... هل تسمعون؟؟... لا " بعدها أخذ يضرب على الأرض بقوة وهو يصرخ " لا لا لا لا لا.... إليزابيث.... إليزابيث لا تفعلي بي هذا أرجوك... إليزابيث أنا أتوسل إليك لا تتركيني... لا.... إليزابيث "
ضم السيد إدموند ولده بقوة إلى صدره وهو يهمس " هون عليك... هون عليك دانيال "
صرخ دانيال منادياًَ باسم إليزابيث بكل ألم وحزن...
وماله إلا أن فقد وعيه مرة أخرى وجسده يتعرق بشده وعيناه مبللتان بدموعه
الحارقة... وقلبه ملتاع بألم وحيرة مشبوبتين.... إليزابيث.............
البارت الخامس والثلاثون
" الصعود للأسفل "
سبتمبر
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
أكتوبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
نوفمبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ديسمبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ما رأته أعينكم صحيح..... مرت أربعة أشهر كاملة..... صحيح بأنكم تخطيتموها بثوانٍ
معدودات.... لكنها.... لكنها كانت كالقرون بالنسبة لدانيال..... بل أكثر
من هذا بكثير.... ماتت طفلته.... وزوجته لم تحرك ساكناً منذ أشهر.... آه لو
تعلمون لكم ملت الدموع من النزول.... وتعبت الآلام من تعذيبه.... لم تبق
التعاسة فيه شيئاً لتنهبه.... لقد كان أشبه بالميت.... بل الميت حاله أفضل
بكثير... أتعرفون ذلك الشعور؟؟.... عندما تحس بأن وجودك في هذا العالم ليس
له داعٍ.... عندما ترغب بالموت بأسرع وقت لكنه.... لكنه لا يأتيك أبدا....
هذا كان شعور دانيال في تلك الفترة.... آه لو ترون حاله لتبكون من الأسى
والحزن.... بالكاد يضع لقمة واحدة في فمه... لا يفارق المستشفى إلا ساعة
واحدة ليستحم فيها ويستبدل ملابسه ثم يعود وفؤاده يرتعي شوقاً لها....
شوقاً لكفها الصغير حين يحتضنه بيده الكبيرة... شوقاً ليحادثها لكن مع
الأسف.... نفذت الأحاديث... ليبقى في النهاية بكاءه الصامت.... وأنينه
الخافت..... وجهه صار شاحباً كشحوب الأموات.... والسواد تحت عينيه يزيد في
كل لحظة.... شعره طال كثيراً حتى بات يصل لنهاية رقبته.... حتى لحيته نمت
وصارت واضحة.... من يراه يغلب على ظنه بأنه مشرد آسف على حاله... لكنه....
لكنه مع الأسف الشديد كان أكثر من ذلك بكثير.... لقد كان محطم الفؤاد...
محطم المشاعر.... شبحاً بجسد إنسان... جسداً بلا روح أو ضلال.... يعاني
الوحدة والقسوة كما يعاني الشتاء.... عيناه فارغتان تماماً كأمطار بلا
ماء.... جسده هزيل كثيراً كزهرة بلا حياة.... روحه تصرخ بصمت كرياح بلا
هواء..... بدأ القنوط يتسلل إلى أعماق قلبه كما تتسلل ظلمات الليل خلسة
لتغطي ضوء الشمس الساطع.... لا تظنوا أنه كان يحاول الصمود يوماً أو
يومين.... بل كان يكافح لأجل البقاء لساعة أو ساعتين... كانت مسألة وقت فقط
حتى يستلم لدياجير اليأس.... مسألة وقت فقط......
لقد وجدوا تلك الفتاة التي دفعت إليزابيث ولما
استجوبوها عرفوا بأن جوش وراء كل ذلك لكن دانيال لم يكن في حاله تسمح له
بمعاقبته.... كل ما كان يهمه إليزابيث... كل ما كان يهمه هو حبيبته
الغالية.
وضع دانيال رأسه بالقرب من جسد إليزابيث الممدد على
ذلك الفراش الأبيض اللعين وهو ممسك بكفها البارد المملوء بأجهزة التغذية...
والصوت الوحيد المسيطر هو صوت جهاز ضربات القلب.... إلى أن.... إلى أن سمع
أنيناً خافتاً ما كان لغيره بأن يسمعه فرفع رأسه بسرعة ليقول بلهفة واضحة " إليزابيث "
لكن.... لا شيء.... لكم مر وقت طويل جداً على ذكر
اسمها.... كان يشعر بثغرة كبيرة في صدره وقد كانت تحرقه وتؤلمه كلما ذكر
اسمها أو ذكر شيئاً يخصها.... حتى الاسم صار يؤلم.... حتى الاسم..... لهذا
كان يتجنب ذكره دائماً حتى لا يزيد ألمه.
أخفض دانيال رأسه وأسند ظهره على الكرسي ليضم ساقيه
إلى صدره محاولاً منع نفسه من الانكسار.... ألهذه الدرجة؟؟..... ألهذه
الدرجة أصبحت مهشماً سريع التفتت والانكسار يا دانيال... ألهذه الدرجة؟؟
دخل شخص إلى الغرفة وهو يقول " مرحباًً دانيال " وقد كانت ديانا فهي تتفقد حال إليزابيث ودانيال كل ثلاثة أيام أو أسبوع تقريباً وتحاول التخفيف عنه.
أشاح دانيال بوجهه بعيداً ولم يرد فنظرت إليه ديانا
بإشفاق وهي تراه بذلك الضعف يضم نفسه حتى يبقى متماسكاً... اقتربت منه
لتمسح على ظهره محاولاً التخفيف عنه... صحيح بأنه جرحها يوماً وأهان
كرامتها لكنه لا يزال إنساناً.... لديه مشاعر وأحاسيس... قالت بصوت خافت " هيا دانيال... لقد طلبت لنا الغداء في الطابق السفلي "
رد عليها دانيال بصوت خافت " أشكرك لكنني لا أشعر بالجوع "
ضغطت ديانا على كتف دانيال بكفها محاولاً بث شيء من الصبر إليه وقالت " أنت لم تأكل شيئاً دانيال.... هيا معي "
لم يرغب دانيال مجادلة أحد فنهض باستسلام وتوجه معها
للأسفل بصمت ليجلسوا في مطعم راق وهناك وضع طبق من الدجاج أمامه لو شام
رائحته جائع لسال لعابه لكنه لم يفكر حتى لمسه.
بدأت ديانا بالأكل وهي تقول بصوت خافت " دانيال... لقد... لقد مرت أربعة أشهر على ذلك اليوم المشئوم "
رفع دانيال رأسه وقال بهدوء " وماذا في الأمر؟؟ "
أجابته ديانا بصوت مرتبك " ألا.... ألا تظن بأن الوقت قد حان لتمضي قدماً؟؟... أعني... تحاول نسيان الماضي... وتبدأ حياة جديدة "
أنزل دانيال رأسه وأخذ نفساً عميقاً مقهوراً ثم قال بنبرة خافتة
" بهذه السهولة؟؟.... بهذه السهولة يئس الجميع؟؟... بهذه السهولة
نسيتموها؟؟.... ديانا.... كنت أظنك الإنسانة الوحيدة التي ستصبر معي... إن
إليزابيث لم ترحل... لم ترحل بعد....... ولطالما قلبها ينبض... فقلبي سينبض
بالأمل للقاها.... ولن ينساها "
صمتت ديانا للحظات ثم قالت " لكن.... لقد طالت المدة.... وقد تدوم للأبد... لن يستطيع أحد منا الصمود للنهاية... عليك النسيان... عليك المضي "
رد عليها دانيال بصوت مرتجف " أنسى؟؟.... هل
أنسى الفتاة التي أخرجتني من عزلتي؟؟.... هل أنسى الفتاة التي أنارت
عالمي؟؟.... أنسى كياني؟؟.... أنسى نفسي؟؟.... هل تريدين مني بأن أترك
قلبي؟؟.... تأكدي ديانا بأن قلبي الآن ليس معي... ليس في جسدي فقد تركته
معها في الأعلى... ليبقيها دافئة.. وآمنة... وليشاركها الأمل الذي فيه...
حتى لو كان قليلاً.... صدقيني ديانا.... لن أستطيع "
لم تستطع ديانا الرد على ذلك الكلام المؤثر فأخفضت رأسها وقالت بصوت خافت " آسفة " بعدها أكلمت طعامها.
أخذ دانيال يقلب ملعقته لدقائق لكنه شعر بشعور غريب جداً فقال وهو ينهض " شكراً على الطعام... أنا عائد "
أوقفته ديانا بقولها " إلى أين؟؟ "
دانيال " إلى الأعلى "
ديانا " لكنك لم تأكل شيئاً "
اكتفى دانيال بهز رأسه نفياً ثم سار مبتعداً ليدخل المصعد ويتحسس الأرقام التي كانت بارزة بعض الشيء إلى أن وجد الرقم (6) فضغطه وصعد وما إن فتح الباب حتى توجه بخطوات سريعة إلى الغرفة التي رقمها (630)
فدخل وقد كان صوت دقات القلب مسيطراًُ على المكان كالعادة فتوجه للكرسي
الذي بجوار سرير إليزابيث ليجلس عليه ويمسك بكفها البارد ويقول بنبرته
الدافئة " لقد اشتقت إليك... ما إن أبتعد عنك ثوانٍ.... أشتاق
إليك.... حتى وأنا بجوارك أشتاق إليك... متى تعودين حبي؟؟.... أنا
أنتظرك... لا تستسلمي "
في
وسط محيط مظلم..... تسبح وحدها...... تحس بالماء يكاد يخنقها......
والأمواج قوية جداً.... تحاول السباحة والتقدم لكن الأمواج العاتية
تردها... كلما أرادت الاستسلام... يأتي صوت دافئ يقول بحنان " قاومي.... لا تستسلمي.... أنا معك "
كانت تسأله بلهفة " من أنت؟؟ " لكن.... ما من مجيب.
فجأة.....
شيء ما سحبها إلى الأعماق السحيقة..... كانت تريد
الهواء ليشبع طمع رئتيها... تريد التنفس.... كادت تسبح للأعلى لكنها رأت
شيئاً... نوراًً ذهبياً قوياً يتوهج بالأسفل.... حاولت الغوص للأسفل ولكن
تيارات الماء تردعها... أرادت الاستسلام من جديد لكن ذلك الصوت العميق
الدافئ همس في أذنيها " تابعي.... كدت تصلين.... أنا أنتظرك في الجانب الآخر " لهذا تابعت الغوص حتى اقتربت كثيراً من الضوء فمدت ذراعيها
لتلامسه ليشتد بقوة كبيرة حتى أعمى بصرها فبدأ الهواء يتدفق إلى رئتيها
بسرعة وفتحت عينيها لتستيقظ على شهقة قوية وأخذت تتنفس بصعوبة وتسعل بشدة.
انتفض دانيال الجالس بجوارها فصرخ قائلاً بلهفة وهو يتنقل للسرير " إليزابيث؟؟.... إليزابيث هل استيقظتِ؟؟ " ثم وضع كفيه على وجها وهو غير مصدق لما يحسه ويسمعه.
وضعت إليزابيث كفيها على وجه دانيال وأنفاسها غير
منتظمة وعلى وجهها علامات الشك وهي تفكر في هذا الصوت فهو نفسه الذي ساعدها
على الخروج من مأزقها وبث فيها الأمل لكنها... لكنها قالت بصوت مستغرب " لا أرى شيئاً " بعدها انتبهت لصوتها المبحوح فقالت " مـ... ماء "
التقط دانيال قارورة الماء من على الطاولة ووضع
طرفهاا على فمها لتلتقطه هي بشفتيها وتشربه بكل ظمأ ولهفة حتى بلل
ملابسها... وبعد أن رطبت حلقها أبعدت القارورة وصمتت لتستوعب ما يحدث لها
فقال دانيال بفرح" لا... لا أصدق بأنك استيقظت... أنا... أنا لا أدري ماذا أقول " ولم يستطع إخفاء اللهفة والسعادة في صوته وكان يتكلم بسرعة ودموع لم يعرف سببها كانت تتساقط من عينيه الزرقاوات... حتى جسده كان يرتعش فضمها بقوة ليهدئ من روعه وهمس بصوته الدافئ " اشتقت إليك "
وضعت إليزابيث كفيها على صدر دانيال ثم دفعته بقوة وتراجعت للخلف حتى لامس ظهرها تاج السرير بعدها قالت بخوف وشك " مـ.... من أنت؟؟... ما الذي تريده مني؟؟.... وأين أنا؟؟ "
عاود دانيال الاقتراب من إليزابيث ووضع كفه على وجهها وهو يقول " ما بك حبيبتي؟؟... هذا أنا... دانيال "
كف إليزابيث كف دانيال لتبعده وقالت بنبرة عالية " دانيال من؟؟.... أنا لا أعرفك... ابتعد عني... ولم تدعوني بحبيبتي؟؟.... أنا أحب جوش... أين هو؟؟... ولم أنا لا أرى شيئاً؟؟ "
اغتاظ وجه دانيال وقال بصوت خافت لا يخفى فيه الشك والاستغراب
" جـ.... جوش؟؟.... إليزابيث؟؟.... ما بك؟؟.... جوش بالسجن منذ أكثر من
عام... لقد خرج من حياتك كلياً.... كما.... كما أنك لا ترين أصلاً...
إليزابيث ما بك؟؟ "
ابتعدت إليزابيث أكثر إلى أن لامس جيدها طرف السرير
وهي ترتجف.... لم يكن هذا العالم نفسه الذي تعرفه.... لم يكن نفسه الذي
تركته ونامت... لم يكن كل شيء على طبيعته... لا... لم يكن أي شيء على
طبيعته.... كل شيء كان مختلف كلياً... لم هي لا ترى؟؟.... من هذا
الشاب؟؟.... ما الذي يقصده بجوش في السجن؟؟.... أين هي؟؟... ما الذي
يجري؟؟.......
حاول دانيال التقدم أكثر وتفاجأت إليزابيث بأنها
أحست بحركته فكما تعلمون بعد سنة كاملة من بقائها مكفوفة أصبح الإحساس
عندها قوياً لهذا صرخت وهي تقول " لا تقترب "
تراجع دانيال للخلف بيدين مرتعشتين.... وعينين
مستغربتين... لم تكن هذه الفتاة نفسها التي عرفها... لم تكن هي التي
عشقها.... الصوت نفسه.... الملمس نفسه.... لكن القلب.... تغير.... ما الذي
يجري؟؟........
دخلت ديانا للغرفة وهي تقول بعدم تصديق " إليزابيث؟؟... لقد سمعت صوتك؟؟ " بعدها صمتت للحظات وهي تنظر إلى صديقتها الغالية تتحرك من جديد فصرخت وركضت نحوها بكل لهفة لتضمها بشوق وتقول بسعادة بالغة " إليزابيث.... آه إليزابيث لا أصدق بأنك استيقظتِ من جديد... آه كم اشتقت إليك... لقد كدنا نقتل بسببك... خاصةً دانيال "
حركت إليزابيث ذراعيها بصعوبة لتلفهما حول ديانا وهي تقول باستغراب " مـ... ما الذي يجري؟؟... أين أنا ديانا؟؟... لم لا أرى شيئاً؟؟.... أرجوك أجيبيني قبل أن أفقد صوابي "
ابتعدت ديانا عن إليزابيث وهي تتطلع إلى عينيها
بحيرة واستغراب ثم حولت نظرها لدانيال الذي كان متجمداً كقطعة من الجليد
بينما دموعه تتساقط بغزارة كأنما هو يذوب من الألم.... بعدها حولت نظرها
مرة أخرى لإليزابيث وهي تقول بشك " آلي.... أنت بالمستشفى... وقد
كنت بغيبوبة منذ أكثر من أربعة أشهر... وأنت... وأنت لا تريدين منذ أكثر من
سنة ونصف... ما بك إليزابيث؟؟ "
صمتت إليزابيث لثوانٍ وهي تعيد كلمات ديانا في ذهنها مراراً وتكراراً لتتحرك شفتيها بالنهاية وتنطقان بكل ما في العالم من حيرة " لا أرى؟؟.... غيبوبة؟؟ " بعدها ضربت السرير بكفيها بقوة وهي تصرخ
" ما الذي تقولينه ديانا؟؟.... عن أي غيبوبة تتحدثين؟؟... وعن أي سنة ونصف
تتكلمين؟؟... ديانا ما هذا الهراء بالله عليك؟؟... لقد كنت قبل قليل مع
جوش في السيارة والآن تقولين لي غيبوبة "
التفتت ديانا إلى دانيال الذي لا يزال على وضع التجمد وقالت برجاء " دانيال... ساعدني "
هز دانيال رأسه نفياً وفي عينيه فراغ كبير وقال بنبرة خافتة " لا فائدة... إنـ.... إنها لا تتذكرني... لقد.... لقد نسيتني.... نسيت كل شيء عني... حتى اسمي "
تساقطت الدموع من عيني إليزابيث وقالت بصوت مكسور " ما الذي يجري لي؟؟ " بعدها صرخت بصوت عالٍ
" ما الذي يجري لي بحق السماء؟؟... أخبروني... أخبروني بهذا الآن... أين
هو عالمي الذي اعتدت العيش فيه؟؟.... أين أنا؟؟..... في أي مستنقع
رميتموني؟؟.... من هذا الشاب؟؟.... من هو دانيال؟؟... لم يدعوني
حبيبته؟؟.... ما الذي يجري؟؟ "
لم تدر ديانا كيف تتصرف معها فقفزت بسرعة لتضغط
بسرعة على زر استدعاء الممرضات وضغطته عدة مرات ثم ضمت إليزابيث التي باتت
تضرب كل ما حولها وتصرخ بصوت مبحوح مفزوع.
حضرت ممرضة إلى الغرفة بسرعة ولما رأت إليزابيث بتلك
الحالة المزرية استدعت باقي الممرضات ليقمن بإمساكها بكل قوتهن بينما
إحداهن غرست حقنة مهدئة بذراعها وسرعان ما هدأت وسقطت بكل ما في العالم من
تعب فقامت ديانا بتغطيتها ثم تركتها وخرجت.
خرج دانيال من الغرفة بخطوات متثاقلة ثم أغلق الباب خلفه واستند على الجدار المقابل للغرفة.
بدأت ديانا بإجراء الاتصالات على الجميع ليأتوا لكنها لم تذكر لهم شيئاً عن فقدان إليزابيث لذاكرتها.
انزلق جسد دانيال ليجلس بكل أسى وحزن وهو واضع يداه
على رأسه وكأن هموم العالم تجمعت عليه..... فبكى... وبكى.... لقد تعب
بحق... أرهق جسده... أرهقت روحه.... سكر بأحزانه.... أدمن على آلامه...
صحيح بأن زوجته استيقظت... لكنه يتمنى الآن بأنها لم تستيقظ.... يتمنى لو
بقيت في تلك الغيبوبة.... على الأقل ستكون آخر ذكرى لها في ذهنه ضحكتها
وسعادتها... وحبها له..... الآن... بدأ التحدي الكبير.... بدأ الصعود إلى
الأسفل.... كل ما عاناه سابقاً... كل ما جربه.... يعد قطرة في محيط بالنسبة
لما سيواجهه الآن... من دموع... ومعاناة... قد تكسر إليزابيث قلبه مرة...
أو مرتين... أو ربما عشر.. لكن... هل سيتراجع؟؟... هل سيفقد الآمل؟؟... من
يدري؟؟...........
حضرت في البداية أليكس بعدها كات وجاك ثم مارك
وأنيتا وتوم والسيد إدموند ولما رأوا حالة دانيال استغربوا أشد الاستغراب
فكيف له بأن يبقى على حاله حتى مع استيقاظها؟؟...
حكت ديانا ما جرى لهم بعدها جاء الطبيب ليقف أمامهم فقال السيد إدموند بلهفة " ما الأخبار دكتور؟؟ "
صمت الطبيب لثوانٍ ثم قال " أين هو زوجها؟؟ "
تنحى الجميع جانباً ليرى الطبيب دانيال جالس على الأرض بكل حزن فاقترب منه وقال " سيد كلون... أريد بأن أسألك بعض الأسئلة في مكتبي... تفضل أرجوك "
رفع دانيال رأسه ثم وقف ومن دون أي حرف واحد اتجه الطبيب إلى مكتبه وهناك....
جلس الطبيب خلف مكتبه وقال " تفضل سيدي "
جلس دانيال على الكرسي بهدوء وهو مخفض رأسه ليسمع الطبيب يقول " كما قيل لي... فإن السيدة كلون لا تتذكر شيئاً عنك... أليس هذا صحيحاً؟؟ "
أومأ دانيال برأسه ليقول الطبيب " لكنها تتذكر صديقتها الآنسة ديانا جيداً؟ "
أومأ دانيال برأسه من جديد فقال الطبيب " هل لي بأن أعرف منذ متى وأنت تعرف السيدة كلون؟؟ "
صمت دانيال لبرهة وقال " من أكثر من سنة ونصف "
الطبيب " لقد عرفت من مصادر أخرى بأن هذه
ليست المرة الأولى التي تدخل فيها زوجتك بغيبوبة... لقد قيل لي بأنها دخلت
في واحدة ليلة فقدانها لبصرها "
صمت دانيال لبرهة أخرى ثم قال " شيء من هذا القبيل فلم أكن أعرفها حينها "
صمت الطبيب لدقيقتين تقريباً ثم قال " لقد تأكدت شكوكنا "
رفع دانيال رأسه وقال " أي شكوك؟؟ "
الطبيب " إن زوجتك لا تتذكر إلا ما حدث قبل
دخولها في الغيبوبة الأولى.... أي لا تتذكرك ولا تتذكر شيئاً عن كونها
عمياء أو كونها دخلت المسكن وتعرفت على أناس جدد... إنها تتذكر فقط ما حدث
معها ليلة الحادث كما لو أنه حدث بالأمس "
وضع دانيال ذراعه على الطاولة وأسند رأسه على كفه
لتغطي خصلات شعره عينيه اللتان أغمضهما بشدة رغبة في حبس الدموع لكن ما كان
ذاك إلا عبثاً فهاهي تحرق خديه بسيولها المتدفقة الساخنة... تذكر دانيال
صراخ إليزابيث فوضع كفه الآخر على صدره محاولاً سد تلك الثغرة الكبيرة في
وسط صدره... والتي تزداد سوءاً واتساعاً مع الوقت بعدها همس بصوت خافت معذب
" إليزابيث... إليزابيث إليزابيث.... لم أتوقع بأن يؤلمني اسمك إلى هذا
الحد.... لم أتوقع بأن يدمرني صراخك الحاد بهذه القوة... آه إليزابيث...
أنت تعذبينني لكنك لا تعلمين... إليزابيث "
لم يفهم الطبيب شيئاً من همس دانيال فقال " هون عليك سيدي "
نهض دانيال ليخرج خارج الغرفة ويمشي على غير هداً وكفه مسند على جدران المستشفى بينما يقول في نفسه
( لم على زهرة بيضاء بأن تتألم وتجرح أكثر من مرة؟؟.... لم عليها بأن
تجابه الحقيقة المرة لمرتين؟؟... لم يحدث كل هذا لك حبيبتي؟؟... لم يحدث كل
هذا لك إليزابيث؟؟.... لم لا يمكن لحبنا بأن يدوم للأبد؟؟.... لم عليه بأن
يدمر؟؟.... لم؟؟ "
*هذا هو معنى الصعود للأسفل إن كنتم لم تفهموا معني العنوان
*ها قد راح دانيال...
*بدلاً من المضي قدماً
*بات يصعد للأسفل
*هل سينجح بالوصول لمبتغداه؟؟
*أم أنه سيخفق؟؟
انشطر
باب الظلمة لنصفين وتنافر كل منهما عن الآخر ليخرج ذلك الطبيب بوجهه
المتعرق فانتفض دانيال ووقف بسرعة هائلة وهو يقول موجهاً كلامه للطبيب " ما الأخبار دكتور؟؟.. هل نجحت العملية؟؟ "
صمت الطبيب لثوانٍ ثم قال " لقد نجحت العملية بفضل الله "
وضع دانيال كفيه على وجهه واستدار ثم قال بفرح لا يوصف " نعم... حمداً لله "
قاطع الطبيب فرحة دانيال بقوله " هنالك بعض الشروخ في عظامها لكنها لن تضر كثيراً.... لا نعلم حتى الآن أيه أضرار حدثت في عقلها فقد... "
التفت دانيال وقال بريبة " ماذا؟؟ "
فتح الطبيب فمه ليقول " لقد.. " لكن الكلمات أبت الخروج من جديد فأمسك دانيال بياقة الطبيب بخشونة وعصبية وصرخ " ماذا؟؟ "
أمسك الطبيب بكفي دانيال ثم قال بسرعة " اهدأ
سيدي... لقد.... لقد دخلت زوجتك في غيبوبة.... ولا ندري بالتحديد... إن
كانت ستصحو منها اليوم... أو غداً.... أو ربما سنة أو سنتين أو..... ستبقى
فيها للأبد "
ترك دانيال ياقة الطبيب ويداه ترتجفان.... بل جسده
بكامله كان يرتجف.... استدار للجميع وعيناه مفتوحتان على مصراعيهما....
بينما تحملان كل معاني الصدمة... الفزع... الخوف.... عدم التصديق.... سمع
صيحات بكاء صديقاتها فحرك لسانه بصعوبة ليهمس" لا " بعدها سقط على الأرض وقال بنبرة أكثر علواً " لا ".
اقترب السيد إدموند منه فالتفت إليه دانيال وعيناه
تتطلعان لمستقبل أسود معتم بعتمة الليل البارد تغطيه ظلال الحزن ودياجير
المعاناة... بينما تجول فيه وحوش الوحدة الشرسة.... تنهش به... تنشب فيه
أنيابها الحادة.... تقتله... فقال بصوت خافت " لا أبي.... إليزابيث مازالت معي... إليزابيث لم تدخل في غيبوبة.... إليزابيث لم تتخل عني... إليزابيث لم تتركني "
قال توم بنبرة خافتة " دانيال لقد... "
قاطعه دانيال بصراخ " لا.... هل تسمعون؟؟... لا " بعدها أخذ يضرب على الأرض بقوة وهو يصرخ " لا لا لا لا لا.... إليزابيث.... إليزابيث لا تفعلي بي هذا أرجوك... إليزابيث أنا أتوسل إليك لا تتركيني... لا.... إليزابيث "
ضم السيد إدموند ولده بقوة إلى صدره وهو يهمس " هون عليك... هون عليك دانيال "
صرخ دانيال منادياًَ باسم إليزابيث بكل ألم وحزن...
وماله إلا أن فقد وعيه مرة أخرى وجسده يتعرق بشده وعيناه مبللتان بدموعه
الحارقة... وقلبه ملتاع بألم وحيرة مشبوبتين.... إليزابيث.............
البارت الخامس والثلاثون
" الصعود للأسفل "
سبتمبر
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
أكتوبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
نوفمبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ديسمبر
.
.
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ما رأته أعينكم صحيح..... مرت أربعة أشهر كاملة..... صحيح بأنكم تخطيتموها بثوانٍ
معدودات.... لكنها.... لكنها كانت كالقرون بالنسبة لدانيال..... بل أكثر
من هذا بكثير.... ماتت طفلته.... وزوجته لم تحرك ساكناً منذ أشهر.... آه لو
تعلمون لكم ملت الدموع من النزول.... وتعبت الآلام من تعذيبه.... لم تبق
التعاسة فيه شيئاً لتنهبه.... لقد كان أشبه بالميت.... بل الميت حاله أفضل
بكثير... أتعرفون ذلك الشعور؟؟.... عندما تحس بأن وجودك في هذا العالم ليس
له داعٍ.... عندما ترغب بالموت بأسرع وقت لكنه.... لكنه لا يأتيك أبدا....
هذا كان شعور دانيال في تلك الفترة.... آه لو ترون حاله لتبكون من الأسى
والحزن.... بالكاد يضع لقمة واحدة في فمه... لا يفارق المستشفى إلا ساعة
واحدة ليستحم فيها ويستبدل ملابسه ثم يعود وفؤاده يرتعي شوقاً لها....
شوقاً لكفها الصغير حين يحتضنه بيده الكبيرة... شوقاً ليحادثها لكن مع
الأسف.... نفذت الأحاديث... ليبقى في النهاية بكاءه الصامت.... وأنينه
الخافت..... وجهه صار شاحباً كشحوب الأموات.... والسواد تحت عينيه يزيد في
كل لحظة.... شعره طال كثيراً حتى بات يصل لنهاية رقبته.... حتى لحيته نمت
وصارت واضحة.... من يراه يغلب على ظنه بأنه مشرد آسف على حاله... لكنه....
لكنه مع الأسف الشديد كان أكثر من ذلك بكثير.... لقد كان محطم الفؤاد...
محطم المشاعر.... شبحاً بجسد إنسان... جسداً بلا روح أو ضلال.... يعاني
الوحدة والقسوة كما يعاني الشتاء.... عيناه فارغتان تماماً كأمطار بلا
ماء.... جسده هزيل كثيراً كزهرة بلا حياة.... روحه تصرخ بصمت كرياح بلا
هواء..... بدأ القنوط يتسلل إلى أعماق قلبه كما تتسلل ظلمات الليل خلسة
لتغطي ضوء الشمس الساطع.... لا تظنوا أنه كان يحاول الصمود يوماً أو
يومين.... بل كان يكافح لأجل البقاء لساعة أو ساعتين... كانت مسألة وقت فقط
حتى يستلم لدياجير اليأس.... مسألة وقت فقط......
لقد وجدوا تلك الفتاة التي دفعت إليزابيث ولما
استجوبوها عرفوا بأن جوش وراء كل ذلك لكن دانيال لم يكن في حاله تسمح له
بمعاقبته.... كل ما كان يهمه إليزابيث... كل ما كان يهمه هو حبيبته
الغالية.
وضع دانيال رأسه بالقرب من جسد إليزابيث الممدد على
ذلك الفراش الأبيض اللعين وهو ممسك بكفها البارد المملوء بأجهزة التغذية...
والصوت الوحيد المسيطر هو صوت جهاز ضربات القلب.... إلى أن.... إلى أن سمع
أنيناً خافتاً ما كان لغيره بأن يسمعه فرفع رأسه بسرعة ليقول بلهفة واضحة " إليزابيث "
لكن.... لا شيء.... لكم مر وقت طويل جداً على ذكر
اسمها.... كان يشعر بثغرة كبيرة في صدره وقد كانت تحرقه وتؤلمه كلما ذكر
اسمها أو ذكر شيئاً يخصها.... حتى الاسم صار يؤلم.... حتى الاسم..... لهذا
كان يتجنب ذكره دائماً حتى لا يزيد ألمه.
أخفض دانيال رأسه وأسند ظهره على الكرسي ليضم ساقيه
إلى صدره محاولاً منع نفسه من الانكسار.... ألهذه الدرجة؟؟..... ألهذه
الدرجة أصبحت مهشماً سريع التفتت والانكسار يا دانيال... ألهذه الدرجة؟؟
دخل شخص إلى الغرفة وهو يقول " مرحباًً دانيال " وقد كانت ديانا فهي تتفقد حال إليزابيث ودانيال كل ثلاثة أيام أو أسبوع تقريباً وتحاول التخفيف عنه.
أشاح دانيال بوجهه بعيداً ولم يرد فنظرت إليه ديانا
بإشفاق وهي تراه بذلك الضعف يضم نفسه حتى يبقى متماسكاً... اقتربت منه
لتمسح على ظهره محاولاً التخفيف عنه... صحيح بأنه جرحها يوماً وأهان
كرامتها لكنه لا يزال إنساناً.... لديه مشاعر وأحاسيس... قالت بصوت خافت " هيا دانيال... لقد طلبت لنا الغداء في الطابق السفلي "
رد عليها دانيال بصوت خافت " أشكرك لكنني لا أشعر بالجوع "
ضغطت ديانا على كتف دانيال بكفها محاولاً بث شيء من الصبر إليه وقالت " أنت لم تأكل شيئاً دانيال.... هيا معي "
لم يرغب دانيال مجادلة أحد فنهض باستسلام وتوجه معها
للأسفل بصمت ليجلسوا في مطعم راق وهناك وضع طبق من الدجاج أمامه لو شام
رائحته جائع لسال لعابه لكنه لم يفكر حتى لمسه.
بدأت ديانا بالأكل وهي تقول بصوت خافت " دانيال... لقد... لقد مرت أربعة أشهر على ذلك اليوم المشئوم "
رفع دانيال رأسه وقال بهدوء " وماذا في الأمر؟؟ "
أجابته ديانا بصوت مرتبك " ألا.... ألا تظن بأن الوقت قد حان لتمضي قدماً؟؟... أعني... تحاول نسيان الماضي... وتبدأ حياة جديدة "
أنزل دانيال رأسه وأخذ نفساً عميقاً مقهوراً ثم قال بنبرة خافتة
" بهذه السهولة؟؟.... بهذه السهولة يئس الجميع؟؟... بهذه السهولة
نسيتموها؟؟.... ديانا.... كنت أظنك الإنسانة الوحيدة التي ستصبر معي... إن
إليزابيث لم ترحل... لم ترحل بعد....... ولطالما قلبها ينبض... فقلبي سينبض
بالأمل للقاها.... ولن ينساها "
صمتت ديانا للحظات ثم قالت " لكن.... لقد طالت المدة.... وقد تدوم للأبد... لن يستطيع أحد منا الصمود للنهاية... عليك النسيان... عليك المضي "
رد عليها دانيال بصوت مرتجف " أنسى؟؟.... هل
أنسى الفتاة التي أخرجتني من عزلتي؟؟.... هل أنسى الفتاة التي أنارت
عالمي؟؟.... أنسى كياني؟؟.... أنسى نفسي؟؟.... هل تريدين مني بأن أترك
قلبي؟؟.... تأكدي ديانا بأن قلبي الآن ليس معي... ليس في جسدي فقد تركته
معها في الأعلى... ليبقيها دافئة.. وآمنة... وليشاركها الأمل الذي فيه...
حتى لو كان قليلاً.... صدقيني ديانا.... لن أستطيع "
لم تستطع ديانا الرد على ذلك الكلام المؤثر فأخفضت رأسها وقالت بصوت خافت " آسفة " بعدها أكلمت طعامها.
أخذ دانيال يقلب ملعقته لدقائق لكنه شعر بشعور غريب جداً فقال وهو ينهض " شكراً على الطعام... أنا عائد "
أوقفته ديانا بقولها " إلى أين؟؟ "
دانيال " إلى الأعلى "
ديانا " لكنك لم تأكل شيئاً "
اكتفى دانيال بهز رأسه نفياً ثم سار مبتعداً ليدخل المصعد ويتحسس الأرقام التي كانت بارزة بعض الشيء إلى أن وجد الرقم (6) فضغطه وصعد وما إن فتح الباب حتى توجه بخطوات سريعة إلى الغرفة التي رقمها (630)
فدخل وقد كان صوت دقات القلب مسيطراًُ على المكان كالعادة فتوجه للكرسي
الذي بجوار سرير إليزابيث ليجلس عليه ويمسك بكفها البارد ويقول بنبرته
الدافئة " لقد اشتقت إليك... ما إن أبتعد عنك ثوانٍ.... أشتاق
إليك.... حتى وأنا بجوارك أشتاق إليك... متى تعودين حبي؟؟.... أنا
أنتظرك... لا تستسلمي "
في
وسط محيط مظلم..... تسبح وحدها...... تحس بالماء يكاد يخنقها......
والأمواج قوية جداً.... تحاول السباحة والتقدم لكن الأمواج العاتية
تردها... كلما أرادت الاستسلام... يأتي صوت دافئ يقول بحنان " قاومي.... لا تستسلمي.... أنا معك "
كانت تسأله بلهفة " من أنت؟؟ " لكن.... ما من مجيب.
فجأة.....
شيء ما سحبها إلى الأعماق السحيقة..... كانت تريد
الهواء ليشبع طمع رئتيها... تريد التنفس.... كادت تسبح للأعلى لكنها رأت
شيئاً... نوراًً ذهبياً قوياً يتوهج بالأسفل.... حاولت الغوص للأسفل ولكن
تيارات الماء تردعها... أرادت الاستسلام من جديد لكن ذلك الصوت العميق
الدافئ همس في أذنيها " تابعي.... كدت تصلين.... أنا أنتظرك في الجانب الآخر " لهذا تابعت الغوص حتى اقتربت كثيراً من الضوء فمدت ذراعيها
لتلامسه ليشتد بقوة كبيرة حتى أعمى بصرها فبدأ الهواء يتدفق إلى رئتيها
بسرعة وفتحت عينيها لتستيقظ على شهقة قوية وأخذت تتنفس بصعوبة وتسعل بشدة.
انتفض دانيال الجالس بجوارها فصرخ قائلاً بلهفة وهو يتنقل للسرير " إليزابيث؟؟.... إليزابيث هل استيقظتِ؟؟ " ثم وضع كفيه على وجها وهو غير مصدق لما يحسه ويسمعه.
وضعت إليزابيث كفيها على وجه دانيال وأنفاسها غير
منتظمة وعلى وجهها علامات الشك وهي تفكر في هذا الصوت فهو نفسه الذي ساعدها
على الخروج من مأزقها وبث فيها الأمل لكنها... لكنها قالت بصوت مستغرب " لا أرى شيئاً " بعدها انتبهت لصوتها المبحوح فقالت " مـ... ماء "
التقط دانيال قارورة الماء من على الطاولة ووضع
طرفهاا على فمها لتلتقطه هي بشفتيها وتشربه بكل ظمأ ولهفة حتى بلل
ملابسها... وبعد أن رطبت حلقها أبعدت القارورة وصمتت لتستوعب ما يحدث لها
فقال دانيال بفرح" لا... لا أصدق بأنك استيقظت... أنا... أنا لا أدري ماذا أقول " ولم يستطع إخفاء اللهفة والسعادة في صوته وكان يتكلم بسرعة ودموع لم يعرف سببها كانت تتساقط من عينيه الزرقاوات... حتى جسده كان يرتعش فضمها بقوة ليهدئ من روعه وهمس بصوته الدافئ " اشتقت إليك "
وضعت إليزابيث كفيها على صدر دانيال ثم دفعته بقوة وتراجعت للخلف حتى لامس ظهرها تاج السرير بعدها قالت بخوف وشك " مـ.... من أنت؟؟... ما الذي تريده مني؟؟.... وأين أنا؟؟ "
عاود دانيال الاقتراب من إليزابيث ووضع كفه على وجهها وهو يقول " ما بك حبيبتي؟؟... هذا أنا... دانيال "
كف إليزابيث كف دانيال لتبعده وقالت بنبرة عالية " دانيال من؟؟.... أنا لا أعرفك... ابتعد عني... ولم تدعوني بحبيبتي؟؟.... أنا أحب جوش... أين هو؟؟... ولم أنا لا أرى شيئاً؟؟ "
اغتاظ وجه دانيال وقال بصوت خافت لا يخفى فيه الشك والاستغراب
" جـ.... جوش؟؟.... إليزابيث؟؟.... ما بك؟؟.... جوش بالسجن منذ أكثر من
عام... لقد خرج من حياتك كلياً.... كما.... كما أنك لا ترين أصلاً...
إليزابيث ما بك؟؟ "
ابتعدت إليزابيث أكثر إلى أن لامس جيدها طرف السرير
وهي ترتجف.... لم يكن هذا العالم نفسه الذي تعرفه.... لم يكن نفسه الذي
تركته ونامت... لم يكن كل شيء على طبيعته... لا... لم يكن أي شيء على
طبيعته.... كل شيء كان مختلف كلياً... لم هي لا ترى؟؟.... من هذا
الشاب؟؟.... ما الذي يقصده بجوش في السجن؟؟.... أين هي؟؟... ما الذي
يجري؟؟.......
حاول دانيال التقدم أكثر وتفاجأت إليزابيث بأنها
أحست بحركته فكما تعلمون بعد سنة كاملة من بقائها مكفوفة أصبح الإحساس
عندها قوياً لهذا صرخت وهي تقول " لا تقترب "
تراجع دانيال للخلف بيدين مرتعشتين.... وعينين
مستغربتين... لم تكن هذه الفتاة نفسها التي عرفها... لم تكن هي التي
عشقها.... الصوت نفسه.... الملمس نفسه.... لكن القلب.... تغير.... ما الذي
يجري؟؟........
دخلت ديانا للغرفة وهي تقول بعدم تصديق " إليزابيث؟؟... لقد سمعت صوتك؟؟ " بعدها صمتت للحظات وهي تنظر إلى صديقتها الغالية تتحرك من جديد فصرخت وركضت نحوها بكل لهفة لتضمها بشوق وتقول بسعادة بالغة " إليزابيث.... آه إليزابيث لا أصدق بأنك استيقظتِ من جديد... آه كم اشتقت إليك... لقد كدنا نقتل بسببك... خاصةً دانيال "
حركت إليزابيث ذراعيها بصعوبة لتلفهما حول ديانا وهي تقول باستغراب " مـ... ما الذي يجري؟؟... أين أنا ديانا؟؟... لم لا أرى شيئاً؟؟.... أرجوك أجيبيني قبل أن أفقد صوابي "
ابتعدت ديانا عن إليزابيث وهي تتطلع إلى عينيها
بحيرة واستغراب ثم حولت نظرها لدانيال الذي كان متجمداً كقطعة من الجليد
بينما دموعه تتساقط بغزارة كأنما هو يذوب من الألم.... بعدها حولت نظرها
مرة أخرى لإليزابيث وهي تقول بشك " آلي.... أنت بالمستشفى... وقد
كنت بغيبوبة منذ أكثر من أربعة أشهر... وأنت... وأنت لا تريدين منذ أكثر من
سنة ونصف... ما بك إليزابيث؟؟ "
صمتت إليزابيث لثوانٍ وهي تعيد كلمات ديانا في ذهنها مراراً وتكراراً لتتحرك شفتيها بالنهاية وتنطقان بكل ما في العالم من حيرة " لا أرى؟؟.... غيبوبة؟؟ " بعدها ضربت السرير بكفيها بقوة وهي تصرخ
" ما الذي تقولينه ديانا؟؟.... عن أي غيبوبة تتحدثين؟؟... وعن أي سنة ونصف
تتكلمين؟؟... ديانا ما هذا الهراء بالله عليك؟؟... لقد كنت قبل قليل مع
جوش في السيارة والآن تقولين لي غيبوبة "
التفتت ديانا إلى دانيال الذي لا يزال على وضع التجمد وقالت برجاء " دانيال... ساعدني "
هز دانيال رأسه نفياً وفي عينيه فراغ كبير وقال بنبرة خافتة " لا فائدة... إنـ.... إنها لا تتذكرني... لقد.... لقد نسيتني.... نسيت كل شيء عني... حتى اسمي "
تساقطت الدموع من عيني إليزابيث وقالت بصوت مكسور " ما الذي يجري لي؟؟ " بعدها صرخت بصوت عالٍ
" ما الذي يجري لي بحق السماء؟؟... أخبروني... أخبروني بهذا الآن... أين
هو عالمي الذي اعتدت العيش فيه؟؟.... أين أنا؟؟..... في أي مستنقع
رميتموني؟؟.... من هذا الشاب؟؟.... من هو دانيال؟؟... لم يدعوني
حبيبته؟؟.... ما الذي يجري؟؟ "
لم تدر ديانا كيف تتصرف معها فقفزت بسرعة لتضغط
بسرعة على زر استدعاء الممرضات وضغطته عدة مرات ثم ضمت إليزابيث التي باتت
تضرب كل ما حولها وتصرخ بصوت مبحوح مفزوع.
حضرت ممرضة إلى الغرفة بسرعة ولما رأت إليزابيث بتلك
الحالة المزرية استدعت باقي الممرضات ليقمن بإمساكها بكل قوتهن بينما
إحداهن غرست حقنة مهدئة بذراعها وسرعان ما هدأت وسقطت بكل ما في العالم من
تعب فقامت ديانا بتغطيتها ثم تركتها وخرجت.
خرج دانيال من الغرفة بخطوات متثاقلة ثم أغلق الباب خلفه واستند على الجدار المقابل للغرفة.
بدأت ديانا بإجراء الاتصالات على الجميع ليأتوا لكنها لم تذكر لهم شيئاً عن فقدان إليزابيث لذاكرتها.
انزلق جسد دانيال ليجلس بكل أسى وحزن وهو واضع يداه
على رأسه وكأن هموم العالم تجمعت عليه..... فبكى... وبكى.... لقد تعب
بحق... أرهق جسده... أرهقت روحه.... سكر بأحزانه.... أدمن على آلامه...
صحيح بأن زوجته استيقظت... لكنه يتمنى الآن بأنها لم تستيقظ.... يتمنى لو
بقيت في تلك الغيبوبة.... على الأقل ستكون آخر ذكرى لها في ذهنه ضحكتها
وسعادتها... وحبها له..... الآن... بدأ التحدي الكبير.... بدأ الصعود إلى
الأسفل.... كل ما عاناه سابقاً... كل ما جربه.... يعد قطرة في محيط بالنسبة
لما سيواجهه الآن... من دموع... ومعاناة... قد تكسر إليزابيث قلبه مرة...
أو مرتين... أو ربما عشر.. لكن... هل سيتراجع؟؟... هل سيفقد الآمل؟؟... من
يدري؟؟...........
حضرت في البداية أليكس بعدها كات وجاك ثم مارك
وأنيتا وتوم والسيد إدموند ولما رأوا حالة دانيال استغربوا أشد الاستغراب
فكيف له بأن يبقى على حاله حتى مع استيقاظها؟؟...
حكت ديانا ما جرى لهم بعدها جاء الطبيب ليقف أمامهم فقال السيد إدموند بلهفة " ما الأخبار دكتور؟؟ "
صمت الطبيب لثوانٍ ثم قال " أين هو زوجها؟؟ "
تنحى الجميع جانباً ليرى الطبيب دانيال جالس على الأرض بكل حزن فاقترب منه وقال " سيد كلون... أريد بأن أسألك بعض الأسئلة في مكتبي... تفضل أرجوك "
رفع دانيال رأسه ثم وقف ومن دون أي حرف واحد اتجه الطبيب إلى مكتبه وهناك....
جلس الطبيب خلف مكتبه وقال " تفضل سيدي "
جلس دانيال على الكرسي بهدوء وهو مخفض رأسه ليسمع الطبيب يقول " كما قيل لي... فإن السيدة كلون لا تتذكر شيئاً عنك... أليس هذا صحيحاً؟؟ "
أومأ دانيال برأسه ليقول الطبيب " لكنها تتذكر صديقتها الآنسة ديانا جيداً؟ "
أومأ دانيال برأسه من جديد فقال الطبيب " هل لي بأن أعرف منذ متى وأنت تعرف السيدة كلون؟؟ "
صمت دانيال لبرهة وقال " من أكثر من سنة ونصف "
الطبيب " لقد عرفت من مصادر أخرى بأن هذه
ليست المرة الأولى التي تدخل فيها زوجتك بغيبوبة... لقد قيل لي بأنها دخلت
في واحدة ليلة فقدانها لبصرها "
صمت دانيال لبرهة أخرى ثم قال " شيء من هذا القبيل فلم أكن أعرفها حينها "
صمت الطبيب لدقيقتين تقريباً ثم قال " لقد تأكدت شكوكنا "
رفع دانيال رأسه وقال " أي شكوك؟؟ "
الطبيب " إن زوجتك لا تتذكر إلا ما حدث قبل
دخولها في الغيبوبة الأولى.... أي لا تتذكرك ولا تتذكر شيئاً عن كونها
عمياء أو كونها دخلت المسكن وتعرفت على أناس جدد... إنها تتذكر فقط ما حدث
معها ليلة الحادث كما لو أنه حدث بالأمس "
وضع دانيال ذراعه على الطاولة وأسند رأسه على كفه
لتغطي خصلات شعره عينيه اللتان أغمضهما بشدة رغبة في حبس الدموع لكن ما كان
ذاك إلا عبثاً فهاهي تحرق خديه بسيولها المتدفقة الساخنة... تذكر دانيال
صراخ إليزابيث فوضع كفه الآخر على صدره محاولاً سد تلك الثغرة الكبيرة في
وسط صدره... والتي تزداد سوءاً واتساعاً مع الوقت بعدها همس بصوت خافت معذب
" إليزابيث... إليزابيث إليزابيث.... لم أتوقع بأن يؤلمني اسمك إلى هذا
الحد.... لم أتوقع بأن يدمرني صراخك الحاد بهذه القوة... آه إليزابيث...
أنت تعذبينني لكنك لا تعلمين... إليزابيث "
لم يفهم الطبيب شيئاً من همس دانيال فقال " هون عليك سيدي "
نهض دانيال ليخرج خارج الغرفة ويمشي على غير هداً وكفه مسند على جدران المستشفى بينما يقول في نفسه
( لم على زهرة بيضاء بأن تتألم وتجرح أكثر من مرة؟؟.... لم عليها بأن
تجابه الحقيقة المرة لمرتين؟؟... لم يحدث كل هذا لك حبيبتي؟؟... لم يحدث كل
هذا لك إليزابيث؟؟.... لم لا يمكن لحبنا بأن يدوم للأبد؟؟.... لم عليه بأن
يدمر؟؟.... لم؟؟ "
*هذا هو معنى الصعود للأسفل إن كنتم لم تفهموا معني العنوان
*ها قد راح دانيال...
*بدلاً من المضي قدماً
*بات يصعد للأسفل
*هل سينجح بالوصول لمبتغداه؟؟
*أم أنه سيخفق؟؟
الإثنين فبراير 27, 2012 4:33 pm من طرف prnsjo
» من أجمل ما قرآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآت
الإثنين فبراير 27, 2012 4:30 pm من طرف prnsjo
» كم منا يريد ان يرى المصطفى فى منامه
الجمعة فبراير 24, 2012 5:11 pm من طرف prnsjo
» كيف نعشق الصلاة
الجمعة فبراير 24, 2012 5:06 pm من طرف prnsjo
» نكت 2012
الجمعة فبراير 17, 2012 1:59 am من طرف Biso_basim
» نكت جامده جدا
الجمعة فبراير 17, 2012 1:52 am من طرف Biso_basim
» اجمل و اجمد و اروش نكت
الجمعة فبراير 17, 2012 1:42 am من طرف Biso_basim
» نكت بخلاء
الجمعة فبراير 17, 2012 1:40 am من طرف Biso_basim